وأما موقف الناس من هذين العلمين فيقول رحمه الله: [فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين]، أي: أن من أنكر العلم الموجود -وهو الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى- كان من الكافرين، ومن ادعى العلم المفقود -وهو علم الغيب- كفر أيضاً. هذا هو مراد الشارح رحمه الله هنا، لكن كلمة (من أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين) تحتاج إلى إيضاح، ولابد فيها من التفصيل ولو إشارة.
فنقول: إن ما ثبت مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القرآن والسنة الصحيحة، وكان معلوماً من الدين بالضرورة، أو مما لا يجهله مثل ذلك المنكر، ولا يخفى عليه فأنكره؛ فإنه يكون كافراً، ومعنى: (لا يجهله مثله) أي: لو أن أعرابياً جاء من البادية ثم أنكر شيئاً من الدين لا يجهل مثله المقيم العالم، فنقول: لا يكفر هذا الأعرابي؛ لأنه لابد أن يكون مما لا يجهله مثله من أهل البادية، أي: ممن يكون مثله يعلم أن ذلك من عند الله، وأنه مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الشرك والخمر والربا، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالملائكة.. وما أشبه ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أما لو أنكر شخص حديثاً ما؛ فإن هذا فيه تفصيل أيضاً: فإن كان الحديث ذا أسانيد مشهورة أو متواترة -ولا سيما المتواترة- أو كان الحكم المتضمن له مما علم من الدين بالضرورة؛ فهذا يدخل ضمن القاعدة الأولى، وأما إن كان من الأحاديث التي جاءت أسانيدها آحاداً وتخفى على مثل هذا الرجل، فلا يُكَفَّر رأساً، ونقول: لا يُكَفَّر رأساً وابتداءً، ولا نقول: لا يكفر مطلقاً، وإنما يُعلَّم، فإن كان إنكاره لشبهة -مثلاً- أنه لم يصح؛ فقد ذكرنا أن تكفير من رد حكم الكتاب غير تكفير من تأوَّل حكم الكتاب، فحكم هذا غير حكم هذا، فمن تأول تكشف عنه الشبهة ويزال تأويله، فإذا قال: أنا لا أومن بهذا الحديث؛ لعدم صحته؛ لأن في سنده فلاناً، فالواجب هنا ألاَّ نكفره، بل نقول: إن الحديث صحيح، ونبين طرقه، وصحته وكلام الأئمة فيه.. حتى نثبت له أنه صحيح، فإذا بنى رده للحديث على عدم تأكده من ثبوته، أو لقاعدة ما كحال أهل الرأي الذين يقولون: إن الحديث -وإن كان صحيحاً- إذا خالف ظاهر القرآن يُرد، فإذا قال في حديث صحيح: إنما أرده لمخالفته ظاهر القرآن، فهذا ليس كمن ردَّه رد تكذيب وإنكار، وإنما لديه شبهة، ففي هذه الحال لابد -أولاً- أن نزيل الشبهة عنه، ونبين له أن هذه القاعدة خطأ، وإن كان عليها بعض الأئمة، وإن قال بها من قال من فقهاء الإسلام.
هذا هو التفصيل في مسألة إنكار شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والشارح هنا إنما قصده إنكار العلم الموجود، ولو أن التعبير كان هكذا لكان أدق وأسلم: (من أنكر العلم الموجود كفر، ومن ادعى علم الغيب كفر)، أو: من أنكر ما جاء به الرسول كفر، لكن لفظة (شيئاً) تحتمل ما هو أقل، وما هو داخل في باب الإنكار لا على سبيل الرد، ولكن على سبيل التأويل والشبهة، كما سبق.